وإنه لذكر لك ولقومك
إنَّ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد ورسوله.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وعلى آله
وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، كل بدعة ضلالة.
{يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا
وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
[آل عمران: 102]، {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ
عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}
[النساء: 1]، {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا *
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}
[الأحزاب 70، 71].
وبعد: فيقول الله -جل ذكره- عن كتابه الكريم الذي أنزل: {وَإِنَّهُ
لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}
[الزخرف: 44]، أي وإنه شرف لك يا رسول الله وشرف لقومك أن أنزل عليك هذا القرآن،
وسوف تسألون يا عباد الله عن هذا القرآن وعن هذه النعمة، وهل عملتم بهذا القرآن وهل
قدمتم له شكرًا أم لا؟
لقد قال الله عن كتابه الكريم: {الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا
* قَيِّمًا}
[الكهف: 1]، فحمد ربنا نفسه، وأمر العباد بحمده على إنزاله هذا القرآن الذي لم يجعل
له عوجًا.
لقد وصف رب العزة -سبحانه وتعالى- كتابه القرآن بجميل الأوصاف، وصفه بأنه كريم، {إِنَّهُ
لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}
[الواقعة77، 78].
ووصفه بأنه مجيد، إذا قال: {ق
وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}
[ق: 1].
ووصفه بأنه حميد، إذ الله قال: {يس
* وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ}
[يس 1، 2]
ووصفه بأنه عزيز، قال -تعالى ذكره: {إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ *
لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ}
[فصلت 41، 42].
ووصفه بأنه مبارك، إذ الله قال: {وَهَذَا
ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
[الأنبياء: 50].
لقد سمعته الجن فقالت أول ما سمعته ولأول وهلة: {إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ
نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا * وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ
صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}
[الجن 1-3]. هكذا قالت الجن لما سمعته.
وقالت كذلك: {يَا
قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}
[الأحقاف: 31].
لقد قال تعالى: {لَقَدْ
أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ}
[الأنبياء: 10]، أي فيه عزكم، فيه شرفكم، فيه مجدكم، {أَفَلَا
تَعْقِلُونَ}.
هكذا قال تعالى في كتابه الكريم.
وقال عز مَن قائل: {قَدْ
جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ
فَعَلَيْهَا}
[الأنعام: 104].
وقال تعالى ذكره: {قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
[المائدة 15، 16].
هذا الذكر الكريم مَن اتبعه واتبع ما فيه؛ لا يضل ولا يشقى، لا يضل في الدنيا ولا
يشقى في الآخرة، ولا يضل ولا يشقى أيضًا في الدنيا، {وَمَنْ
أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ
بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ
تُنْسَى} [طه
124-126].
إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم في كل طريق وفي كل اتجاه، والناظر إلى الصحابة
الكرام -رضي الله تعالى عنهم- الذين تربوا على هذا القرآن، وتأدبوا بآدابه، وتخلقوا
بأخلاقه؛ يرى كيف كان أثر هذا القرآن في هؤلاء الصَّحْبِ الكرام الذين هم خير
القرون.
وإني سائقٌ -بإذن الله- أمثلة توضح كيف وأن الصحابة -رضي الله عنهم- تخلقوا بكريم
الأخلاق من هذا القرآن المجيد.
فهذا أبو بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه- يؤذى في عرضه، يؤذى في ابنته، تُتَّهم
ابنته عائشة -رضي الله عنها- من شخصٍ كان أبو بكر يُحسن إليه غاية الإحسان لقرابته
منه، ولسبقه إلى الإسلام، كان أبو بكر يُكرمه ويُطعمه ويُعطيه، ومع ذلك طعن هذا
الطاعن مسطح بن أثاثة في عائشة -رضي الله تعالى عنها- وأنزل الله -سبحانه- براءة
أمنا عائشة -رضي الله عنها- مما نُسبَت إليه ونُسبَ إليها.
فكأيِّ أبٍ تأخذه العاطفة تجاه ابنته المظلومة، فيقول -وحق له أن يقول ذلك:
والله لا أنفق على مسطح
بعد اليوم.
ليس بواجب عليه هذا الإنفاق، لكن يُرشد إلى الأكمل، ويُرشَد إلى الأفضل، يُنزِّل
الله تعالى الآية الكريمة: {وَلَا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}
[النور: 22].
فيقول: بلى يا رب، والله يا رب أحب أن تغفر لي.
فحينئذٍ يُقسم قائلًا مرة أخرى:
لا والله، لا أمنع النفقة
عن مسطحٍ أبدًا.
{أَلَا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ}
[النور: 22]. يقول:
بلى يا رب، والله إني أحب أن تغفر لي، والله يا ربِّ لن أمنع النفقة عن مسطحٍ أبدًا.
هكذا يُكيِّف نفسه وِفقَ كتاب الله -عز وجل- المنزَّل، ويدعُ هوى نفسه وراء ظهره
-رضي الله تعالى عنه.
وهذا الجليل عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- هو الآخر كيف وقد أثَّر القرآن فيه
ويترك حظ نفسه والانتصار لها أمام آية من كتاب الله تبارك وتعالى.
عمر يدخل عليه داخلٌ وهو عُيينة بن أسلم الفزاري، فيقول: يا ابن الخطاب إنك لا
تعطنا الجزل، ولا تحكم بالعدل.
أي: ما تعطينا إلا الفتات، ثم إنك ظالم.
فَيَهِمُ به عمر، ليبطش به، فيسمع مذكرًا يقول: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول: {خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
[الأعراف: 199]، وإن هذا والله لمن الجاهلين يا أمير المؤمنين. فيُمسك عمر رضي الله
عنه عن إلحاق الأذى بهذا الرجل.
يقول الراوي: والله ما تخطاها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وما تجاوزها، فقد
كان وقَّافًا عند كتاب الله -عز وجل- فترك الأهواء أمام الآيات، وترك الأهواء أمام
الأحاديث، {فَلَا
وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
[النساء: 65].
هذا عمر تحضره الوفاة ويُطعن طعنة فيها مقتله، فيدخل عليه الداخلون ما بين مُعَزٍّ
يعزِّي إليه نفسه، وما بين مصبِّرٍ يصبِّره، ودخل الطبيب وبعد أن فحص الطبيب عمرَ
قال: أوصِ يا أمير
المؤمنين فإنك ميِّت.
قال عمر: صدقت،
ولو قلت غير ذلك لكذَّبتك.
ثم لم يبقَ نادبًا أمر نفسه؛ إنما يُقبل على العمل الجاد النافع له في أخراه
والنافع لأمة محمد من بعده، فيقول على التوِّ وعلى الفور:
"يا عبد الله بن عمر،
اذهب يا عبد الله بن عمر فانظر إلى ديوني، احصر أموالي وانظر إلى ديوني، إن كانت
أموالي تكفي لسداد الديون فسُدَّ عني ديني يا عبد الله بن عمر، وإن لم تكن أموالي
تكفي لسداد ديوني؛ فاسأل في قبيلتي بني عدي، قل لهم: مَن عنده مالٌ لسداد ديون
عمر؟".
ابن الخطاب -رضي الله عنه- الذي جُمعت له الأموال من كسرى وقيصر، والخزائن أمامه
مملوءة بالأموال، ولكن لا تمتد يده إلى أخذ شيء ليس له.
قال عمر: "اذهب يا
عبد الله بن عمر واسأل في بني عدي إن كانت أموال قبيلتي بني عدي تكفي لسداد ديوني؛
فسدَّ عني الدين وإن لم تكن أموال قبيلتي تكفي؛ فاسأل في قريش، تعدَّى قبيلتي إلى
القرشيين، سلهم أن يسددوا عني ديني".
هكذا يموت يوم يموت -رضي الله تعالى عنه.
ويدخل عليه الداخلون ما بين شخصٍ يزكيه ويثني عليه كابن عباس، يقول: "يا
أمير المؤمنين أبشر، لقد صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنت صحبته، فمات
وهو عنك راضٍ، ثم صحبت أبا بكر -رضي الله عنه- فمات بعد أن أحسنت صحبته فمات وهو
عنك راضٍ، ثم صحبتنا فأحسنت صحبتنا، وها أنت تموت ونحن عنك راضون".
فعمر لم يغتر بهذا الثناء؛ بل قال -معلمًا لمن جاء من بعده: "أما
ما ذكرت من أنني صحبت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأحسنتُ صحبته فمات وهو عن
راضٍ؛ فهذا منٌّ -أي فضل- منَّ الله به عليَّ.
وأما ما ذكرتَ من
صحبتي لأبي بكر -رضي الله عنه- وموته وهو عني راضٍ؛ فهذا منٌّ منَّ الله به عليَّ،
ولكن والله الذي لا إله غيره كل ما أخشاه صحبتك وصحبة إخوانك، تلك الأيام التي
وُلِّيتُ فيها أمركم، ما أدري ما الله صانع بي فيها، والله وددتُ لو أني خرجتُ من
هذه الدنيا كفاف، لا لي ولا عليَّ".
هكذا يقول عمر بن الخطاب الخليفة البار، الملهم، المُحدَّث، الراشد -رضي الله تعالى
عنه.
إن الناس يدخلون على عمر فيقول قائلهم: أوصِ يا أمير المؤمنين.
قبل أن يوصي يسأل لنفسه مقامًا لعله ينتفع به عند الله، فيقول لولده عبد الله بن
عمر: "يا عبد الله
اذهب إلى أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قل لها: يستأذن عليكِ عمر بن الخطاب أن
يُدفن بجوار صاحبيه، بجوار رسول الله وبجوار أبي بكر، استأذن منها يا ابن عمر؛ لأن
الرسول مدفون في بيتها، وكذلك أبوها، ولا تقل لها: يستأذن أمير المؤمنين، فإني لست
اليوم للمؤمنين أميرًا، ولكن قل لها: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه".
قال: "إن أذِنَت
فادفنوني بجوار صاحبي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأبي بكر، وإن لم تأذن
فردُّوني إلى مقابر المسلمين".
فذهب فإذا بعائشة -رضي الله عنها- جالسة تبكي، قال لها: "يا أم المؤمنين، يستأذن
عمر بن الخطاب أن يدفن بجوار صاحبيه".
فبكت، قائلة: "والله كنتُ أدخر هذا المكان لنفسي، ولأوثرنَّه اليوم على نفسي".
فأذنت، فرجع ابن عمر إلى أبيه، فلما رآه عمر جثا على ركبتيه قائلًا: "ماذا عندك يا
عبد الله بن عمر؟".
قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين، أذنت أن تدقن بجوار صاحبيك.
قال: الحمد لله، الحمد لله.
لم يأخذ مكان
الدفن عنوة أبدًا؛ بل بكل طيب نفس من أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها.
ثم يدخل الناس
عليه إرسالاً، وتستأذن ابنته حفصة للدخول عليه،
فتدخل عليه وتجلس معه وتخرج باكية مودعة أباها.
ثم يدخل الناس، أوصِ يا أمير المؤمنين، أوصِ بالخلافة لولدك عبد الله بن عمر.
فيقول: "أنا أوصي لابني؟! أوصي لولدي، لا يحسن أن يطلق النساء، كان قد طلق امرأته
وهي حائض! لا والله لا أوصي لابني أبدًا، ولكن أوصي أن يُجعل الأمر شورى في هؤلاء
الستة".
ما أوصافهم؟ الذين
مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو عنهم راضٍ.
أوصي بالخلافة في
هؤلاء الستة: علي بن أبي طالب، عثمان بن عفان، سعد بن أبي وقاص، عبد الرحمن بن عوف،
طلحة، والزبير.
هؤلاء الستة الذين
مات الرسول -عليه الصلاة والسلام- وهو عنهم راضٍ.
هكذا يوصي عمر للصفة لا للأسماء، لصفتهم، لكون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مات
وهو عنهم راضٍ، لستة من العشرة المبشرين بالجنة، وكان قد عزل سعد بن أبي وقاص في
حياته لطعن أهل العراق فيه، ولاتهامهم له، فقال معتذرًا:
أوصي الخليفة من بعدي بسعد بن أبي وقاص، فإني والله لم أعزله عن عجز ولا خيانة، إن
أصابته الإمارة؛ فهو بها جدير، وإن لم تصبه؛ فأوصي الخليفة من بعدي بسعد بن أبي
وقاص -رضي الله تعالى عنه- فسعد أول مَن رمى بسهم في سبيل الله.
ثم تتوالى وصاياه، قال: "أوصي
الخليفة من بعدي بالمهاجرين السابقين أن يعرف لهم حقهم، وأن ينزلهم منزلتهم.
أوصي الخليفة بالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، وآثروا على أنفسهم
وكانت بهم خصاصة.
أوصي الخليفة من بعدي بالأعراض، وأوصيه بذمة رسول الله، بأهل الذمة أن يؤدي إليهم
حقوقهم".
ثم ما لبث عمر أن مات مقتولًا، فقد طُعن بطعنة، ولما طعنها تذكر أنه لا يغني حذر من
قدر، فتذكر أنه رأى رؤيا كان قد ذكرها من قبل، قال:
رأيتُ كأن ديكًا أحمرًا نقرني ثلاث نقرات.
فلما طُعن الطعنات الثلاث تذكر الرؤيا قائلًا: وكان أمر الله قدرًا مقدورًا.
قضاءً نافذًا، فلا يغني حذر من قدر.
هكذا يتأثر هذا الخليفة الملهم الراشد، وهكذا يتربى على كتاب الله -عز وجل- حكمًا
عادلًا مقسطًا بين الناس، يفضل أصحاب الفضل وينزلهم منازلهم اللائقة بهم، هذا عمر
بن الخطاب.
وذاك أبو طلحة، كيف وأن القرآن هذا الكتاب الكريم يؤثر فيه، يُنزل ربي آية من كتابه
{لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92]، فيعمد إلى أحب ماله عنده، يعمد إلى بستان له من أجمل البساتين،
حديقة له فيها عين طيبة، فيها بئر يخرج منها طيب الماء البارد، الرسول كان يذهب
إليها يستجم فيها أحيانًا، ويشرب من مائها البارد.
فعمِدَ أبو طلحة وذهب إلى الرسول قائلًا: "يا
رسول الله، إن الله يقول:
{لَنْ تَنَالُوا
الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}
[آل عمران: 92]،
وإن أحب مالي إليَّ بيرحاء، يا رسول الله فإني وهبتها لله، يا رسول الله أرجو برها
وزخرها عند الله عز وجل".
قال النبي مهنئًا: «بَخ
بخ، ذاك مالٌ رابح، ذاك مالٌ رابح. ولكن يا أبا طلحة أن تجعلها في الأقربين، أرى أن
توزعها على أقربائك».
فكان أقرباؤه فقراء، والنبي قد قال من قبل: «الصدقة
على البعيد صدقة، والصدقة على القريب لها أجران: صدقة وصلة».
قال -صلى الله عليه وسلم: «بخ
بخ يا أبا طلحة، ذاك مالٌ رابح، ذاك مالٌ رابح، أرى أن تجعلها في الأقربين»،
فقسمها بين أقربائه إعمالًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا تربى الصَّحب الكرام على هذا القرآن، يدعون الشهوات، يتركون الندوات والملذات
للآيات المباركات، يحبون الخمر ويولعون بشربها؛ فلما نزل: {إِنَّمَا
الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
[المائدة: 90]،
وبجوارهم دنان ممتلئة، كان آنذاك فضلاء الصحابة قبل التحريم يشربون منها كأبي طلحة
وأبي بن كعب وغير هؤلاء، فلما أتاهم الآتي يتلو عليهم آيات الله في شأن الخمر، يقول
أبو طلحة في الحال وعلى الفور والتو: يا أنس بن مالك، قم إلى هذه الدنان الممتلئة
خمرًا فأهرقها.
فيقوم أنس يكسر دنان الخمر، فتسيل بها شوارع مدينة رسول الله -عليه الصلاة والسلام.
كل ذلك سمعًا لله وطاعة لله وامتثالًا لأمر الله -سبحانه وتعالى-، هكذا تربى هؤلاء
الصحب الكرام على كتاب الله وعلى سنة رسول الله، رقَّت قلوبهم بهذا الكتاب العزيز،
انزلق الدمع من عيونهم الجوامد بسبب هذا الكتاب العزيز، آيات من كتاب الله تتلى،
الدموع بها تنزرف، القلوب لها ترقّ، توجل قلوب الناس
بإذن ربها، أُرشِدوا بهذا الكتاب العزيز إلى مكارم الأخلاق، وكانوا قومًا همجيين
ضعيفهم يُظلم من قويهم، فقيرهم يهان من غنيهم، فهُذبوا بهذا القرآن الكريم، وكان
الأكرم فيهم عند الله -عز وجل- هو الأتقى كما قال تعالى: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات: 13]. فوُقِّر في هذا الدين بلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي، بلا عصبية
جاهلية، بلا قومية ولا وطنية؛ بل كان الأكرم والأتقى كما قال تعالى: {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}
[الحجرات: 13].
لم تشتركهم عصبية العجم، ولا عصبية قومية، ولا عصبية لبلد؛ إنما كان الأكرم هو
الأتقى، من مصر كان، من اليمن كان، من الرومان كان؛ {إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
هكذا تعاملوا، وهكذا قال عمر: "أبو
بكر سيدنا، وأعتق سيدنا"، فعمر بن الخطاب القرشي يقول عن بلا الحبشي:
"سيدنا".
يقول: "أبو بكر
سيدنا، وأعتق سيدنا"
يعني بلالًا -رضي الله عنه- فيصفه عمر بأنه سيد له.
فيا له من دينٍ حسن، الأكرم فيه هو الأتقى ليس الأكرم هو الأغنى، ليس الأكرم هو ذو
المنصب، ليس الأكرم هو ذو العشيرة والجاه؛ بل الأكرم هو الأتقى.
وقد قال النبي الأمين لما سئل: مَن أكرم الناس يا رسول الله؟
قال: «أكرمهم عند
الله أتقاهم»،
الحديث.
فيا له من دين حسنٍ لا فضل فيه لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، ولا لأبيض على أسود
إلا بالتقوى، هكذا تربى الصحب الكرام على هذا الكتاب العزيز، وكذا على سنة النبي
الأمين محمد عليه الصلاة والسلام.
يؤمر الغني بالجلوس مع الأتقياء وإن كانوا فقراء؛ بل يؤمر سيد ولد آدم بالجلوس مع
الفقراء الأتقياء، {وَلَا
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ
عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}
[الأنعام: 52].
وكذلك يقول تعالى: {وَاصْبِرْ
نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ
وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ
أَمْرُهُ فُرُطًا}
[الكهف: 28].
فحقًّا إن كتاب الله كتاب مجيد، حقًّا إنه كتاب كريم، حقًّا إنه كتاب عزيز، إنه
كتاب حكيم، إنه كتاب مبارك؛ فلمَ تعدلون عنه إلى أباطيل وإلى دساتير وردت إلينا من
زبالات الأفكار، من أوروبا الكافرة وأمريكا الفاجرة، وتجعلونها حكمًا يُردُّ الأمر
إليه؟!
فنشهد الله على براءتنا من كل قانون باطل، ولكل دستور يخالف ما أمر الله به.
أيها الإخوة، اعتصموا بكتاب الله، اعتصموا بسنة رسول الله، بهذا أمرتم، وفي هذا
سلامتكم، بهذا أمرتم: {وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}
[آل عمران: 103].
وقال -تعالى ذكره- عن كتابه الكريم: {يَهْدِي
بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
[المائدة: 16].
فاستمسكوا بالكتاب العزيز وصية نبيكم -صلى الله عليه وسلم- فقد حثَّ على كتاب الله
وذكَّر به، ورغَّب فيه، قال: «إني
تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلوا بعدي أبدًا، كتاب الله»،
فحث ورغَّب في كتاب الله.
وقال: «وأهل بيتي،
أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي».
فاستغفروا ربكم إنه كان غفارًا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهذا كتاب الله الذي سمعتم شيئًا من فضائله، وما سمعتموه غيضٌ من فيضٍ، وقطرةٌ من
بحرٍ؛ وإلا فكتاب الله لا يُحصي فضائله إلا الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أنزله،
ويكفي أنه كلام الله.
فأقبلوا عليه وخذوا به، ولا تؤمنوا ببعض وتكفروا ببعض؛ فإن هذا سبب للخلود في
النار، وهذا ضربٌ من ضروب الكفر، {أَفَتُؤْمِنُونَ
بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ
مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ
يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
[البقرة: 85].
فربي الذي أنزل: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [الحج: 78]، هو الذي
أنزل: {وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38]، هو الذي أنزل: {وَلَا
تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}
[الأنعام: 151]، وهو الذي أنزل: {أَوْفُوا
الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ * وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ
الْمُسْتَقِيمِ}
[الشعراء 181، 182].
ربنا جل ذكره الذي أنزل: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ}
[المائدة: 90]، وهو الذي أنزل أيضًا: {وَلَا
تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}
[الإسراء: 32]، وهو الذي أنزل: {وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ
إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا}
[الإسراء: 31].
فربنا هو الذي أنزل كل هذا، فناصح لنا، ولا يجوز بحال أن نؤمن ببعض الآيات وأن نكفر
بالبعض الآخر، {فَمَا
جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ
بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}
[البقرة: 85].
إن ربكم قال: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
[البقرة: 208]، فلا ينبغي أمام موجات الاستغراق الذاهبة من بلادنا إلى بلاد الغرب،
وموجات الاستشراق الواردة من بلاد الغرب إلى بلاد المشرق، لا ينبغي أن نتهدد أبدًا
أمام هؤلاء، وأن نخفي معالم ديننا، وأن نتوارى أمامهم؛ بل كما قال تعالى: {وَاشْهَدْ
بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}
[آل عمران: 52].
لا يجوز لنا ولا يحل لنا ان نترك كتاب ربنا -سبحانه وتعالى- أمام أحكام كفرية واردة
إلينا وأمام ضغوط الإعلام الخارجي والداخلي على السواء.
قال ربكم -جل ذكره: {كِتَابٌ
أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ}
[الأعراف: 2]، هكذا قال تعالى، فلا يكن في صدرك حرج منه.
لا ينبغي أن نتحرج ونحن نبلغ هذا الكتاب العزيز، فإن قال قائل: كيف ترجمون الزاني
المحصن؟
نقول: هذا قول ربنا، ونحن لربنا مستسلمون.
إن قال قائل: لماذا تقطعون يد السارق؟
فنقول: هذا كلام ربنا، وأمر ربنا، ونحن لربنا سامعون مطيعون.
فإذن؛ ينبغي أن يُعلم أن الذين يُقيمون الحدود هم الولاة كما هو مقرر وكما هو
معروف، فإن توجَّس شخص وأوجد خيفة في نفسه من حكم الله ومن أن الله يظلم؛ فعليه هو
الدائرة، فهو الظالم.
قال تعالى في كتابه الكريم في شأن أقوام: {وَإِذَا
دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ *
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
[النور48-50].
فربنا ليس بظالم، العباد هو الذين يظلمون، أما ربنا فلا يظلم، ولا يضل رب ولا ينسى
ولا يخطئ، تعالى الله عن كل ذلك علوًّا كبيرًا.
فدعوكم من الانهزام أمام موجات الاستشراق والاستغراب -على السواء- وأمام الإعلام
الفاسد المفسد الذي يضلل الناس ويشوش على الدين كما كان أهل الكفر يفعلون: {وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}
[فصلت: 26]، هكذا كانوا يصنعون، تشويش على الدين، وتشويش على القرآن، وتشويش على
سنة النبي الأمين -صلى الله عليه وسلم- كي يصرفوا الناس عن هذا الكتاب العزيز، وعن
هذا الدين القويم، وعن سنة النبي المين، ولن ينالوا مرادهم، فربي متمٌّ لنوره ولو
كره الكافرون، ومظهر لدينه ولو كره المشركون.
إن ربكم حذركم فقال: {وَلَا
تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}
[هود: 113].
إن ربكم -جل ذكره- قال لنبيكم محمد -عليه الصلاة والسلام: {وَدُّوا
لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ}
[القلم: 9].
اعلموا أن أهل الكفر وأتباعهم من أهل الضلال وأهل النفاق والزنادقة يسعون ليلًا
ونهارًا لصرف المسلمين عن دينهم، ويمكرون مكرًا في الليل والنهار لصرف الناس عن
دينهم، والمعصوم مَن عصمه الله.
فجدير بكم يا أهل الإسلام أن تجندوا أنفسكم لنصرة دينكم، لينفق ذو سعة من سعته، وكل
مَن له كفاءة في باب فليجند نفسه لنصرة هذا الدين، محاميًا كان، صحفيًّا كان،
طبيبًا كان، ضابطًا كان، أو عاملًا أو رجل أعمال، كل يسعى لنصرة هذا الدين.
ها هي الدولة اليهودية المجاورة لكم، الكل فيها مجنَّد منذ البلوغ إلى الموت، يسعى
لنصرة باطلة، وربكم -جل وعلا-يستنفركم {انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا}
[التوبة: 41]، وأبو طلحة الصحابي الجليل يفهمها على أن
المراد بها النفرة شيوخًا وشبَّانًا، فجهَّز نفسه للغزو مع كبر سنه، فقال له قائل:
هناك مَن يكفي عنك
يا أبا طلحة.
قال: "ألا أسمع
ربي يستنفرني {انْفِرُوا
خِفَافًا وَثِقَالًا}
[التوبة: 41]،
شبابًا وشيوخًا، وأجلس في بيتي؟ كلا والله".
فينفر وهو كبير السن طاعنٌ في السن لنصرة دينه، فهبُّوا لنصرة دينكم، كلٌّ بما
يستطيع، ولا يتوان في البحث عن سبيل لنصرة هذا الدين، وعائدة ذلك إنما هي لك، قال
تعالى: {إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ}
[محمد: 7] ماذا كان؟ وماذا يكون؟
{إِنْ تَنْصُرُوا
اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ}
إضافة إلى ذلك: {وَيُثَبِّتْ
أَقْدَامَكُمْ}، {إِنْ
تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}
[محمد: 7].
فربي يحفظك، ربي يسلمك بسعيك لنصرة دينك، قال تعالى: {وَلَقَدْ
سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ
الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}
[الصافات: 171-173].
إن ربكم قال: {يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ
تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}
[المائدة: 67].
أيها الناس، أعمالكم الصالحة ربي عنها وعنكم غني؛ ولكن عائدتها إنما هي لكم، ففي
الحديث القدسي: «يا
عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص
ذلك من ملكي شيئًا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب
رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي إنما هي أعمالكم
أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد لله، ومَن وجد غير ذلك؛ لا
يلومنَّ إلا نفسه»،
فابذلوا من وقتكم ومن جَهدكم ومن أموالكم ومن وجاهاتكم شيئًا لنصرة هذا الدين،
غبِّروا الأقدام لنصرة دينكم ولإصلاح بلادكم، وللأخذ بأيدي أقوامكم إلى كتاب الله،
وإلى سنة رسول الله.
إخواني، هذا كتاب الله بين أيديكم، تدبروه، تأملوه، تفكروا فيه، وربي -سبحانه-
أمركم بذلك: {أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}
[محمد: 24]، فتدبروه، واسألوا الله أن يُمَسِّككم به حتى الممات.
اللهم يا وليَّ الإسلام وأهله مسِّكنا بكتابك وسنة رسولك -صلى الله عليه وسلم- حتى
الممات، اللهم مسِّكنا بالعروة الوثقى حتى الممات، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع
قلوبنا، ونور أبصارنا، وجلاء أحزاننا، وذهابًا لهمومنا وغمومنا يا رب العالمين.
اللهم ألبسنا به الحلل، وأسكنا به الظلل، وشفعه فينا يوم نلقاك، يا رب العالمين.
اللهم يا ربنا، يا ولي الإسلام وأهله، متعنا بالنظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء
مضرة، ولا فتنة مضلة، نسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة
ولا فتنة مضلة.
اللهم مُنَّ علينا جميعًا بالفردوس مع مَن أنعمتَ عليهم من النبيين والصديقين
والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
اللهم يا ربنا حكِّم كتابك وسنة نبيك في بلادنا مصر وفي بلاد المسلمين، واجعل كلمتك
هي العليا في كل مكان يا رب العالمين.
اللهم يا ربنا تولى أمرنا، وخذ بأيدينا ونواصينا للبر والتقوى، يا رب العالمين.
إخواني، سلوا الله أن يرحم أمواتنا وأمواتكم وأموات المسلمين، وأن يفك أسرانا وأسرى
المسلمين، وأن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين، وأن يسد عنا وعنكم وعن المسلمين الديون.
اللهم آمين.
لا تغفلوا عن الصلة والصلاة على نبيكم -عليه الصلاة والسلام- فثَمَّ ملائكة كرام ها
هنا وها هنا يحملون صلاتكم إلى نبيكم، فصلوا عليه وسلموا تسلميًا، وأقم الصلاة.